عشان نفهم الصدمات أكتر محتاجين نفهم حاجة أساسية تانية اللي هي الذاكرة. فدا اللي هتكلم عنه انهارده.
ليه بنكون ذكريات وليه بنفتكر؟
تخيل إنك مفتكرتش مين ساعدك في حياتك، مين أذاك، مين بتنبسط معاه مين بتمل من قعدته، المطعم اللي كان أكله مُقرف وتعبت بعده. المطعم اللي أكلت فيه بيتزا وكنت بتزقطط من طعمها بعد كدا. لو مفتكرتش الطريق اللي بيوصلك لبيتك. لو مش فاكر المعلومات المهمة لشغلك؟ مش فاكر المهارات اللي انت اتعلمتها سواء الكتابة أو القراءة أو ركوب عجلة أو عربية أو عزف آلة موسيقية؟
ببساطة مش هتعرف تعيش. مش هتعرف تاخد قرار. مش هتعرف تعمل إيه. مش هتعرف انت مين.
بيتر ليفين بيقول: "التذكر هو عملية إعادة تشكيل مستمرة. تضيف أحيانًا وتمحو أحيانًا وتُعيد ترتيب الأحداث والمعلومات أحيانًا أخرى، كل ذلك من أجل هدف واحد؛ النجاة."
هل كل الذكريات واحنا بنفتكرها بنكون عارفين إن احنا بنفتكرها؟
ما نساه العقل، لم ينسه الجسد.
فرويد
في تجربة مشهورة عملها عالم أعصاب اسمه كلافارد مع مريضة عندها مشكلة في الذاكرة طويلة الأمد أو الـ Long term memory فالمريضة ممكن تعمل محادثة عن كل حاجة وانت معاها، لكن لو سبت الأوضة ورجعتلها تاني مش هتفتكرك ولا هتفتكر المُحادثة. وهتحتاج تعرف نفسك ليها تاني وتبدأ من جديد.
في يوم الدكتور خبّي دبوس في إيده، وهو بيسلم عليها اتشكت من الدبوس وحست بألم في إيديها. في مقابلتهم اللي بعدها المُتوقع إنها تنسى اللي حصل ولو سلّم عليها تمد إيديها تاني بما إن عندها مُشكلة في تكوين واسترجاع الذكريات طويلة الأمد، لكن اللي حصل شيء غريب جدًا: وهو بيمد إيده ليها رجّعت إيديها لورا ورفضت تسلّم عليه. ولمّا سألها ليه مسلمتيش؟ قالت "أحيانًا الدكاترة بيعملوا حاجات تألمك"
فإزاي سحبت إيديها وهي مش معندهاش ذكرى للي حصل؟
عشان نفهم دا محتاجين نفهم يعني إيه ذاكرة كامنة أو Implicit memory:
الذاكرة الكامنة ليها 3 أنواع كُبار:
النوع الأول من أنواع الذاكرة الكامنة والمهم جدًا في الصدمات له علاقة باستجابتنا للخطر: جسمنا بيتصرف إزاي وقت الخطر زي إننا نهرب من الخطر على شخص أمان أو بنتجمد أو بنهاجم كل دا بيتسجل على إنه ذاكرة كامنة عشان وقت الخطر بنحتاج رد فعل سريع ومفيش وقت للارتجال، وكل ما حاجة حصلت ونجيتنا في الماضي كل ما زادت احتمالية تكرارها. يعني مثلًا وانت عندك 6 سنين في كلب هاجمك ومكنش في مجال للهروب. فاللي حصل إن جسمك اتجمد ولما الكلب شافك واقف ومتجمد مقربش أكتر وسابك ومشي. هنا التجمد نجّاك من الخطر وكل فعل نجاه الجسم بيميل إنه يفتكره ويكرره، فجسمك هيميل إنه يتجمد لما يشوف كلب تاني حتى وانت كبير مع إنه عقلك واعي إنه الكلب دا مثلًا مربوط ومش هيقدر يهاجم أو دا كلب أليف أو "أنا كبير وأعرف أحمي نفسي دلوقتي" لكن وقت الخطر ممكن جهازك العصبي يسترجع الذاكرة الكامنة ويكررها من نفسه.
النوع التاني له علاقة بإحنا بنقرّب لإيه وبنبعد عن إيه أو الـ Approach , withdrawal responses فإحنا بنقرّب من كل حاجة ممكن تغذينا وبنبعد عن كل حاجة ممكن تألمنا. يعني مثلًا ممكن نلاحظ في وجود أشخاص أذونا قبل كدا أو أكل كان طعمه مُقرف إن في عضلات من جسمنا ممكن تتشد أو تنقبض وتتوتر وممكن نرجع بجسمنا لورا وممكن نتجنب النظر في عيون اللي أذونا. لو أشخاص كان وجودهم أمان ورعاية وحماية لينا ممكن نلاحظ جسمنا بيرتاح في وجودهم، قلبنا بيهدى، صدرنا ونفسنا بيوسع وممكن نحاول نقرّب منهم وعينينا ممكن متفارقش عينيهم. ودا زي اللي حصل بالظبط في تجربة كلافارد، اتكون ذكرى كامنة إن ممكن السلام على الأطباء يكون مؤلم وخطر، حتى لو مفيش ذكرى مُعلنة والمريضة قادرة تفتكرها لدا. فلما مد إيده في المرة التانية عشان يسلّم عليها إيديها بعدت من نفسها واتكون نموذج في دماغها إن " السلام على الأطباء مؤلم".
النوع التالت وهو أقلهم أهمية لينا في الصدمات هو الخاص بالحركات الجسدية المُتعلمة زي الرقص وركوب العجل والعربية أو أي مهارة عضلية: بعد ما بتتعلم ركوب العجل مثلًا، لما بتركب العجلة مش هتفضل تفتكر انت بتركب العجلة إزاي. إيدك بتمسك الجادون ورجلك على البدال والاتزان بيتظبط من نفسه. كل دا بييجي من الذاكرة الكامنة من غير ما تبذل مجهود في إنك تفكّر أو تفتكر. أو مثلًا المزيكا اللي ممكن تسمعها في دقيقة وبتشوف العازف بيعزفها على الآلة بسهولة وانسيابية دا بيكون وراه ساعات وساعات من التدريب من العازف عشان إيده تتتحرك من الذاكرة الكامنة من غير مجهود واعي كبير.
النوع دا من الذاكرة بيتخزن وبيظهر على هيئة:
أحاسيس جسدية زي انقباض أو توتر في عضلة أو رعشة إيد
أو مشاعر بأحاسيسها الجسدية برده زي تقل في الصدر أو وجع في القلب مع الحزن
أو تعبيرات وش، زي تعبيرات وش الخوف أو الغضب اللي ممكن تظهر علينا في وجود شخص أذانا قبل كدا أو الابتسام وسعة الصدر ونظرات العين الطويلة في وجود شخص كان وجوده مريح.
أو على هيئة نماذج أو أفكار أو مُعتقدات زي "الأطباء ممكن يعملوا حاجات تألمك" اللي اتكون مع الألم اللي حصل مع السلام بالإيد على الطبيب.
الحاجة المُهمة التانية في الذاكرة الكامنة هي قدرتها على تكوين ارتباطات شرطية لتسهيل الحياة علينا او الـ (Associative memory). يعني مثلًا رجوع الأم من الشغل وقرب خطواتها من الباب ممكن يرتبط بالحضن اللي هتحضنه ليك لما تشوفك. فمُجرد ما بتسمع خطواتها ممكن تحس بمشاعر الراحة والترحيب والانبساط. والعكس لو رجوعها هيرتبط بانتقاد أو عقاب، ممكن تحس بقلق وضربات قلبك تزيد وعضلات من جسمك تتشد أو تتوتر بمجرد ما بتسمع خطواتها بتقرب.
نيجي للنوع التاني والمعروف أكتر من الذاكرة: الذاكرة المعلنة أو الـ Explicit Memory:
إحنا بنبدأ نكون ذكريات مُعلنة بعد ما بنتم سنتين تقريبًا، لكن مُعظم البالغين بيبقوا فاكرين حاجات بسيطة من عمرهم قبل الـ 5 سنين.
هل دا معناه إن الفترة دي بما إننا مش فاكرينها مش بتأثر على حياتنا؟
بالعكس دي من أهم الفترات ومُعظمها بيتخزّن كذكريات كامنة أو Implicit memories ويظهر ويأثر علينا من غير ما نكون عارفين، فملاحظة بس جانبية للأهالي، إن مش معنى إن الطفل مش هيفتكر ذكرى واضحة ومُعلنة إن اللي حصل أو بيحصل مش هيأثر عليه. الطفل بيكون ذكريات كامنة وجهازه العصبي بيخزن كل التجارب العاطفية سواء داعمة أو مؤلمة، لكن خلينا نكمل عن الذاكرة المُعلنة:
الذاكرة المُعلنة بتحتاج إننا نركز انتباهنا على حاجة عشان تتخزن، وإحنا بنفتكر الذكرى بنبقى عارفين إننا بنفتكر. يعني لو سألتك آخر عيد ميلاد ليك إيه اللي حصل فيه؟ دا بيحتاج إنك تستدعي معلومات وحقايق ومشاعر متخزنة في الذاكرة المعلنة. وانت بتفتكر وبتحكي بتحس إنك بتفتكر وإنك بتستدعي حاجة من الماضي.
قرن آمون أو الـ Hippocampus هو المسؤول عن تخزين الذكريات المُعلنة قصيرة الأمد وتحويلها لذكريات طويلة الأمد ووقت الولادة بيكون نموه مش مُكتمل، وبيكتمل عند سن سنتين أو سنتين ونصف وعشان كدا دا العمر اللي بيبدأ عنده تخزين الذكريات المُعلنة. وقرن آمون مُرتبط بأجزاء تانية من الدماغ منها اللوزة أو الـ Amygdala وبقية العقل العاطفي أو الـ Limbic System وأجزاء تانية في القشرة المُخية عشان يحصل ربط ما بين تفاصيل حدث ما والمشاعر اللي اتحركت أثناؤه ونتجت عنه وتخزين الذكريات دي.
طيب إيه اللي بيحصل لما قرن آمون بيتعطل؟
المريضة اللي دكتور كلافارد عمل معاها التجربة واتشكت بالدبوس كان عندها إصابة في قرن آمون. فهي مش بتقدر تخزن ذكريات مُعلنة جديدة لكن دا ممنعش إنها تخزن ذكريات كامنة.
الكحول ممكن أوقات يعطّل قرن آمون، وبالتالي الشخص ممكن يقضي ليلة كاملة بيقابل ناس وبيعمل حاجات، ولما ينام ويصحى ميفتكرش أي حاجة من الليلة دي، لكن كل اللي كانوا حواليه وقتها يقولوا له إنك كنت واعي وفايق وهي دي الـ Blackouts.
طيب إيه اللي بيحصل أثناء الصدمات للذاكرة؟
المشاعر الشديدة زي الخوف الشديد أو الغضب الشديد اللي أكتر من الشخص يقدر يتحمله (أو خارج نافذة التحمل أو الـ Window of tolerance) ممكن تعطل وظيفة قرن آمون للحظات عن طريق هرمون الكورتيزول العالي.
لما قرن آمون بيتعطل، في خلل بيحصل في تخزين الذكريات المُعلنة فممكن ميتخزنش ذكريات مُعلنة خالص أو يتخزن صور متفرقة مش حكاية كاملة ليها بداية ونهاية ومعنى. لكن اللي بيتخزن كويس جدًا وحساسيته بتزيد هو الذاكرة الكامنة، فبيتخزن المشاعر والأحاسيس الجسدية وردود الفعل المرتبطة بالصدمة.
فمثلًا، بنت تعرضت لاعتداء جنسي وهي عندها 10 سنين، ومن وقتها وهي فاكرة صورة أو اتنين من اللي حصل. لكن بتلاقي نفسها بتحس بخوف شديد في وجود الرجالة عمومًا أو الرجالة اللي شبه المُعتدى. أو ممكن المكان اللي حصل فيه الاعتداء أو الحاجات اللي شبهه تسبب نفس المشاعر اللي حصلت في الاعتداء. ممكن لو كان في ريحة مُعينة للشخص، الريحة دي لو هي شمتها برده يحصل نفس المشاعر والأحاسيس الجسدية وممكن نفس رد الفعل. (ودا نتيجة الذاكرة الكامنة المُخزنة والارتباطات اللي اتكونت) ودا مشهور بمُثيرات الصدمة أو الـ Triggers.
هكمل المرة الجاية عن الصدمات إن شاء الله.
ولو حد عنده تعديل أو إضافة يا ريت يشاركنا.
وشكرًا ل د رضوى وليد على مراجعة البوست.
المصادر:
Trauma and memory by Peter Levine.
Mindsight by Daniel Siegel.
Comentários